خالد أبو بكر
قنا (مصر) - عند
دخولك قرية "كوم الضبع" بأقصى صعيد مصر تشعر أنك عدت إلى عصور التاريخ
الأولى.. فبيوتها مبنية على نفس الطريقة الفرعونية.. بالطوب اللبِن..
ومسقوفة بألواح من جذوع النخيل.. والأبواب تغلق بمغالق خشبية.. والبساطة
الشديدة هي المعلم الأبرز على وجوه وطريقة معيشة سكان القرية الصغيرة.
في أحد أروقة القرية يقع مقر
جمعية "تنمية المجتمع بكوم الضبع" وهي لا تختلف عن حال بيوت القرية.. لا
تعدو مساحة المقر عن الخمسين مترًا مربعًا.. تضم حجرة صغيرة للإدارة..
بجانب مشغل للفتيات، وبالرغم من بساطتها خرجت منها مبادرة ساهمت في حلّ
أعتى المشاكل تعقيدًا في مصر ألا وهي مشكلة الزواج الباهظ التكاليف.
"لا للكساوي.. لا للعشاوي.. لا
للغداوي.. لا للكحك والبسكويت.. لا للشبكة.. لا للمغالاة في المهور.. رسالة
لكل أم: الزواج عفة للولد والبنت".. شعارات تلخص "مبادرة أبو تريكة"
للزواج منخفض التكاليف التي تبنتها الجمعية الصغيرة.
وليس للاعب كرة القدم المصري
الشهير محمد أبو تريكة تدخل مباشر بهذه المبادرة، لكن يبدو أن أخلاقه
الرفيعة وتواضعه الذي تحدثت عنه الصحف داخل وخارج مصر قد ألهم القائمين على
الجمعية في إخراج مبادرتهم التي تدعو إلى التواضع وعدم المغالاة في المهور
وتكاليف الزواج.
وفي المقابل وضعت الجمعية لاعب
منتخب ساحل العاج الشهير دروجبا كنموذج للزواج باهظ الكلفة الذي طالما قصم
ظهر الأسر المصرية؛ بسبب التظاهر الاجتماعي والتباهي.
يقول الطيب أديب، عضو مجلس إدارة الجمعية: "لقد
أطلقنا على المبادرة اسم اللاعب محمد أبو تريكة (لاعب فريق الكرة بالنادي
الأهلي) باعتباره رمزًا للتواضع، وفي المقابل أطلقنا على الزواج عالي
التكاليف لقب (زواج دروجبا) لاعب ساحل العاج كرمز للتكبر والتعالي".
طريقة دروجبا
ويضيف أديب أن "مبادرة الزواج
منخفض التكاليف انطلقت من كوم الضبع بعد أن عانى الناس فيها من تأخر زواج
أبنائهم، بالنظر إلى الكلفة الباهظة التي يتكبدها أهل العريس أو العروس،
نتيجة العادات والتقاليد المبالغة في البذخ".
هذه التقاليد التي تدعو للبذخ تثير الاستغراب والدهشة
بحسب أديب، فالشبكة لا تقل في أي حال على 25 ألف جنيه (4545 دولارا)،
والعريس عليه تجهيز ما لا يقل عن 3 حجرات.. ولا يقل متوسط أسعارها عن 30
ألف جنيه (5454 ألف دولار) وهذا في ذاته أقل مما تتكبده أسرة العروس.
فأهل العروس يشترون لابنتهم جميع
الأجهزة الكهربائية "تلفزيون وثلاجة وغسالة وبوتاجاز ومكواة وفرن كهربائي،
وأخيرًا طبق استقبال القنوات الفضائية (ريسيفر). ليس هذا فحسب، فتقضي
التقاليد أيضا بأنه يتعين على أهل العروس إحضار 7 حقائب من الملابس لابنتهم
ومتوسط الملابس الموجودة داخل الحقيبة الواحدة لا يقل عن 15 فستانًا؛ وهو
ما يعني أن مجموع الفساتين الموجودة في الحقائب يبلغ 150 فستانًا سعر
الواحد فيهم لا يقل عن 150 جنيها (30 دولارًا).
القائمة لا تزال طويلة جدًّا،
فبجانب ما سبق يحضر أهل العروس كذلك عدد 120 بشكير (فوطة للحمام)، إضافة
إلى 40 ملاءة سرير و5 أطقم أواني و9 أطقم أكواب بأحجام مختلفة".
الغداوي والعشاوي
البنود التي تتحملها العروس في
تكاليف الزواج متواصلة -بحسب أديب- ففي يوم للزفاف يتعين على أهلها أن
يرسلوا لها عدد 201 صينية كعك.. ويقولون: إن الواحد الزائد عن الـ200 هو
بهدف درء الحسد عن ابنتهم، كما يرسلوا لها أيضا عدد 17 عبوة "كرتونة" نواعم
(أنواع مختلفة من البسكويت).
وبعد يوم الزفاف يرسل أهل العروس
لابنتهم على مدار 7 أيام عدد 24 رغيفًا شمسيًّا (نوع من الخبز الصعيدي كبير
الحجم)، وسبعة من أزواج الحمام المحمر، بجانب الخضار والأرز.. وهذا ما
يعرف "بالغداوي".. وقد يزيد الأمر على هذا العدد حبًّا في التظاهر أمام الناس أو درءًا لكلام من الممكن أن ينتقص من قدر أهل العروس. أما العشاوي بحسب أهالي القرية
فيستمر أهل العروس في إرسالها طيلة الأيام السبعة الأولى من الزفاف أيضًا،
وتتكون من "عدد كبير من الفطير وقطع الكنافة والقلاش مع الشاي والسكر".
"أبو تريكة" للغني والفقير
كل ما سبق من مبالغة في تكاليف
الزواج في قرية كوم الضبع والقرى المحيطة بها دفع (جمعية تنمية المجتمع)
لتبني مبادرة (أبو تريكة للزواج منخفض التكاليف) لنسف هذه التكاليف
الباهظة؛ ولذلك وضعت الجمعية قائمة "أبو تريكة" تضم ما يجب على العروسين
إحضاره بحيث لا يزيد مجموع المصاريف على 10 آلاف جنيه (2500 دولار) نصفها
للعريس، والآخر للعروس.
وتضم القائمة "حجرة نوم بنحو 2000
جنيه، والشبكة عبارة عن دبلتين للعروس والعريس، مع حفل زفاف بسيط يقتصر
على مشروب أو قطع للحلوى، وبعض الملابس الجديدة القليلة الكمية، ومطبخ بسيط
جدًّا يعتمد على عدد محدود من الأواني اللازمة للاستخدام وليس للتظاهر".
ولن يقتصر تطبيق القائمة على
الفقراء وحدهم؛ فالأغنياء أيضا سيتزوجون بمقتضاها، بحسب أحمد مختار عبد
الجليل عمدة كوم الضبع الذي بدا متحمسًا للمبادرة. وقال لإسلام أون لاين:
"إن والده هو أول من فكّر في هذه المبادرة عام 1996، لكنه تُوفّي قبل
تطبيقها، إلى أن تبنتها الجمعية وبدأنا نراها واقعًا فعليًّا أمامنا الآن".
العمدة شدّد على أن مبادرة تخفيض
تكاليف الزواج "سيطبقها الأغنياء في كوم الضبع قبل الفقراء؛ حتى لا نشعر
بفوارق بين الأغنياء والفقراء في بلدنا".
وأضاف: "أنا شخصيًّا سأزوّج بناتي
دون شبكة أو بقية التكاليف الباهظة؛ كي نشجع بقية الناس على إنجاح
المبادرة التي تيسر على الزواج تكوين أسر".
سعيد ووفاء.. نموذجا
أول شاب وفتاة تزوجا بطريقة "أبو
تريكة" هما سعيد ووفاء.. سعيد يعمل مهندس (كهرباء)، ووفاء حاصلة على
الثانوية العامة. وعلى الرغم من أنهما ينتميان لعائلات ميسورة الحال فإنهما
فضّلا أن يكونا نموذجًا للعروسين اللذين يخفضا نفقات زواجهما.
تحكي وفاء تجربتها بالقول: "مع
التزايد المبالغ فيه في تكاليف الزواج قررت وزوجي سعيد عمل شيء ما لتخفيض
النفقات.. وقتها سمعنا عن مبادرة خفض تكاليف الزواج.. فقررنا أن نكون أول
من يطبقها، برغم أن أهلينا كانا على استعداد تام لتجهيز زواجنا بأعلى
التكاليف، لكنني وزوجي رفضنا ذلك".
وتواصل وفاء بالقول: "واجهت وسعيد
اعتراضات كثيرة جدًّا من الأهل، لكننا كنا مُصرّين على إنجاح فكرة
المبادرة.. كنا واثقين أن آخرين سيحذون حذونا.. كنا نرى الناس الفقراء في
بلدنا يقاتلون ويكابدون ظروفًا صعبة عند تزويج أبنائهم، وكان لا بد لنا من
عمل شيء لتشجيعهم على التخلي عن هذه السلوكيات السيئة".
وتابعت وفاء بقولها: "اكتفيت
بشبكة قليلة جدًّا.. لم تتخطّ 1800 جنيه (300 دولار)، وفي الأثاث اكتفينا
بحجرة نوم فقط، وقلنا بقية الشقة سنؤسسها بعد الزواج".
وفي دلالة على مدى تأصل المظاهر
في الزيجات قالت وفاء: "أمي بكت يومها من الحزن"، مشيرة إلى أن والدتها
كانت تخشى الحرج أمام أهالي القرية.
وتضيف وفاء: "لكنني كنت مصرّة على
إنجاح المبادرة مع زوجي، والحمد لله أشعر بسعادة كبيرة مع زوجي، وسعادتي
تزيد مع كل عروسين يتزوجان على طريقتنا البسيطة".
انتشار للمبادرة
وكما ذاع صيت اللاعب الفذ أبو
تريكة في جميع أنحاء مصر، فقد ذاع صيت المبادرة التي حملت اسمه في كوم
الضبع وقوبلت بترحاب كبير. فبعد زفاف وفاء وسعيد، تزوج على نفس الطريقة
أحمد وشفيقة، بخلاف انتشار حالات الخطوبة بين الشباب والفتيات بعد أن تم
الاتفاق بين الأهل على تطبيق المبادرة القاضية بخفض تكاليف الزواج.
الحاجة عايدة حسن إبراهيم، واحدة
من الأمهات التي خطبت ابنتها الصغرى دعاء على طريقة "أبو تريكة" تقول في
تجربتها: "عند خطبة دعاء قال أهل خطيبها إنهم سيأتون لها بما يؤتي للعرائس
من الشبكة والتجهيزات، لكني رفضت، وقلت لا.. أنا مع المبادرة التي تيسر
الزواج على الشباب".
وتتابع الحاجة عايدة بقولها: "في
الشبكة أحضر خطيب ابنتي لها دبلة فقط.. وقدّمها لها في جلسة عائلية حتي لا
نتكلف شيئًا، وقمت بتوزيع علبة حلوى على من بارك لنا.. والحمد لله أتمنى أن
يحذو الناس حذونا".
على خطى دعاء سارت العديد من
حالات الخطبة وفق مبادرة "أبو تريكة"، حيث خطبت أسماء محمود عبد اللاه
(خريجة معهد فني تجاري) وأسماء نجدي التي حصلت على بكالوريوس الخدمة
الاجتماعية بعد حصولها على شهادة محو الأمية، وتهاني عايد حسن (ليسانس
آداب)، وعدد كبير غيرهن. وأكدن جميعهن الفرحة الطاغية التي تغمر فتيات كوم
الضبع بعد الارتفاع الملحوظ في حالات الخطوبة منذ الإعلان عن مبادرة "أبو
تريكة"، مما دفع القرى المجاورة للتفكير في محاكاة كوم الضبع في تجربة الحد
من نفقات الزواج، من خلال الجلسات التي تناقش تيسير الزواج في المساجد